أمير الإنسانية إلى رضوان الله بعدما أدى أمانته مصحوبًا بدعوات من شتى أنحاء العالم



2020-09-29

بعدما أكمل رسالته وأدى أمانته وقاد سفينة الكويت وسط بحار مشتعلة من التوترات الإقليمية والعالمية استطاع بحنكته أن يجنب بلاده إياھا وأن يشق لھا طريقًا آمنًا محفوفًا بالسلام والمحبة من العالم رحل حضرة صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح اليوم الثلاثاء لتفقد الكويت قائدًا فذًّا قاد مسيرة تنميتھا وازدھارھا خلال الأربعة عشر عامًا الماضية وخلد اسمھا في المحافل الإقليمية والعربية والعالمية. وعلى وقع أنين الكويت على رحيل أميرھا وقائد نھضتھا تتداعى أحزان البيت الخليجي الذي كان سموه - رحمه الله - حريصًا على رأب ما ناله من تصدع وجمع ما أصابه من شتات لتتسع دائرة الحزن إلى الوطن العربي قاطبة الذي فقد برحيل صاحب السمو قائدًا حكيمًا كثيرًا ما كان حريصًا على تعزيز صفوف دوله وتمتين وحدتھا وإعلاء كلمتھا ووأد الخلاف بينھا فضلًا عن أحزان الإنسانية كلھا التي فقدت بفقدانه أميرھا الذي لم يبخل على مصاب سمع به في مختلف أرجاء العالم حتى غدت الكويت في عھده قبلة للمساعدات الإنسانية والوقفات النبيلة مع المصابين وذوي الكوارث بغض النظر عن أجناسھم وأعراقھم وأديانھم. ومنذ أن تولى سموه دفة الحكم في البلاد يوم 29 يناير 2006 حرص على السير على النھج الحكيم الذي سار عليه قادة الكويت طوال العقود الماضية في أداء دور فاعل في مسيرة الأمن والاستقرار في المنطقة ودرء الخلافات بين دولھا وتحقيق السلام في مجتمعاتھا. وعلى الصعيد الداخلي قاد سمو الأمير الراحل البلاد نحو التطور والتنمية والازدھار في مرحلة صعبة شھدت فيھا المنطقة تحديات كبيرة واھتم ببناء الإنسان باعتباره أثمن الموارد التي يملكھا الوطن وعماد نھضته وتطوره ورخائه. وحظي سمو الأمير الراحل حين تولى دفة الحكم باعتباره الحاكم الخامس عشر لدولة الكويت بتأييد شعبي ورسمي كبير وتمت مبايعته بالإجماع من أعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية في ذلك اليوم الميمون من يناير ليصبح أول أمير منذ عام 1965 يؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة. وكثيرًا ما عرف سمو الأمير الراحل بانتھاج سياسة حكيمة حافظ من خلالھا على مكانة متميزة للكويت في محيطھا الخليجي والعربي والدولي وشھد العالم بأسره نجاحاته الدبلوماسية في نصرة القضايا العادلة للشعوب وحماية الدولة من أي تأثير يھدد كيانھا والوصول بھا إلى بر الأمان في ظل محيط مضطرب بالتھديدات. وإذا كانت البلاد قد عاشت تحت قيادة سموه الحكيمة خلال السنوات الأربع عشرة الماضية فقد سبقتھا عقود من العمل الرسمي لسموه تبوأ خلالھا عددًا من المناصب التي ساھم عبرھا في تعزيز مسيرة بناء الوطن وتوطيد أركانه وترسيخ مكانته. وفقيد الكويت ھو الابن الرابع للشيخ أحمد الجابر الصباح الذي توسم في نجله الفطنة والذكاء منذ صغر سنه فأدخله المدرسة المباركية ثم أوفده إلى بعض الدول للدراسة واكتساب الخبرات والمھارات التي ساعدته على ممارسة العمل بالشأن العام. وبدأت مسيرة العطاء لسمو الأمير الراحل في عام 1954 حينما عين عضوًا في اللجنة التنفيذية العليا التي عھد إليھا آنذاك مھمة تنظيم مصالح الحكومة ودوائرھا الرسمية. وفي عام 1955 تولى سموه منصب رئيس دائرة الشؤون الاجتماعية والعمل فعمل على تنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل لا سيما في ضوء تدفق الھجرات الخارجية من الدول العربية والأجنبية للعمل في الكويت واستحداث مراكز التدريب الفني والمھني للشباب ورعاية الطفولة والأمومة والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة وتشجيع الجمعيات النسائية والاھتمام بالرياضة وإنشاء الأندية الرياضية. وأولى فقيد الكويت اھتمامًا بالفنون وعلى رأسھا المسرح فأنشأ أول مركز لرعاية الفنون الشعبية في الكويت عام 1956 وفي عام 1957 أضيفت إلى مھام سموه رئاسة دائرة المطبوعات والنشر إذ عمل على إصدار الجريدة الرسمية للكويت (الكويت اليوم) وتم إنشاء مطبعة الحكومة لتلبية احتياجاتھا من المطبوعات ووقتھا تم إصدار مجلة (العربي). وأبدى سمو الأمير الراحل اھتمامًا كبيرًا بإحياء التراث العربي وإعادة نشر الكتب والمخطوطات القديمة وتشكيل لجنة خاصة لمشروع (كتابة تاريخ الكويت) وإصدار قانون المطبوعات والنشر الذي كان له دور مميز في تحقيق الصحافة الكويتية مكانة مرموقة بين مثيلاتھا في الدول العربية لما تتصف به من حرية وموضوعية واتزان. وبعد استقلال دولة الكويت عام 1961 عين سموه عضوًا في المجلس التأسيسي الذي عھدت إليه مھمة تشكيل لجنة وضع دستور البلاد ثم عين في أول تشكيل وزاري عام 1962 وزيرًا للإرشاد والأنباء. وفي 28 يناير 1963 وبعد إجراء أول انتخابات تشريعية لاختيار أعضاء مجلس الأمة عين فقيد الكويت وزيرًا للخارجية لتبدأ مسيرة سموه مع العمل السياسي الخارجي والدبلوماسية التي برع فيھا فاستحق لقب مھندس السياسة الخارجية الكويتية وعميد الدبلوماسيين في العالم بعد أن قضى 40 عامًا على رأس تلك الوزارة ربانًا لسفينتھا في أصعب الظروف والمواقف السياسية التي شھدتھا البلاد. ويستذكر الكويتيون بكل فخر الدور الكبير للشيخ صباح الأحمد عندما كان وزيرًا للخارجية حين رفع سموه علم الكويت فوق مبنى الأمم المتحدة بعد قبولھا عضوًا فيھا في 11 مايو 1963. وتجدر الإشارة إلى دور سموه منذ نحو 54 عامًا في جمع الأشقاء وسعيه الدؤوب لحل الخلافات عندما شارك في اللقاء الذي نظمته الأحزاب المتنافسة في اليمن مع ممثلي مصر والسعودية لوضع حد للحرب الأھلية ھناك والتي استأنفت اجتماعاتھا في الكويت في أغسطس 1966. وعندما تدھورت العلاقة بين اليمن الجنوبي واليمن الشمالي وبدأت الصدامات بينھما على الحدود المشتركة قام سموه بزيارة للدولتين في أكتوبر 1972 أثمرت توقيع اتفاقية سلام بينھما. وقام فقيد الكويت في عام 1980 بوساطة ناجحة بين سلطنة عمان وجمھورية اليمن الديمقراطية نتج عنھا توقيع اتفاقية خاصة بإعلان المبادئ ثم وجه سموه الدعوة لوزيري الخارجية في الدولتين لزيارة الكويت عام 1984 حيث اجتمع الطرفان على مائدة الحوار وتوصلا إلى إعلان انتھاء الحرب الإعلامية بينھما واحترام حسن الجوار وإقامة علاقات دبلوماسية. واختط سمو الأمير الراحل منذ نحو خمسة عقود منھجًا واضحًا للسياسة الخارجية لدولة الكويت استطاع من خلاله أن يتخطى بالكويت مراحل حرجة في تاريخھا من خلال انتھاج مبدأ التوازن في التعامل مع القضايا السياسية ومن أبرزھا الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت من عام 1980 حتى عام 1988 وما نتج عنھا من تداعيات أثرت على أمن الكويت واستقرارھا داخليًّا وخارجيًّا. وبذل سموه طوال سنوات قيادته لوزارة الخارجية جھدًا كبيرًا في تعزيز وتنمية علاقات الكويت الخارجية مع مختلف دول العالم وخصوصًا الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. وشھدت البلاد نتيجة ذلك استقرارًا في سياستھا الخارجية وثباتًا اتضحت ثماره في الثاني من أغسطس عام 1990 عندما وقف العالم أجمع مناصرًا للحق الكويتي في وجه العدوان العراقي والذي أثمر صدور قرار مجلس الأمن رقم 678 الذي أجاز استخدام كل الوسائل بما فيھا العسكرية ضد العراق ما لم يسحب قواته من الكويت. ولعل احتضان دولة الكويت اليوم لعشرات الممثليات الدبلوماسية على أراضيھا من سفارات وقنصليات ومراكز لمنظمات دولية وإقليمية لھو دليل ناصع على نجاح سياسة فقيد الكويت الدبلوماسية وحسن قيادته للسياسة الخارجية الكويتية. ونظرًا إلى ما يتمتع به من فطنة وذكاء وقدرة فائقة على تحمل المسؤولية فقد أسندت إلى سمو الأمير الراحل مناصب عدة إضافة إلى منصب وزير الخارجية إذ عين وزيرًا للإعلام بالوكالة في الفترة من 2 فبراير 1971 وحتى 3 فبراير 1975 وفي 16 فبراير 1978 عين نائبًا لرئيس مجلس الوزراء وفي 4 مارس 1981 تسلم حقيبة الإعلام بالوكالة إضافة إلى وزارة الخارجية حتى 9 فبراير 1982. وفي 3 مارس 1985 عين - رحمه الله - نائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرًا للخارجية حتى 18 أكتوبر 1992 عندما تولى منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية. وفي 13 يوليو 2003 صدر مرسوم أميري بتعيين فقيد الكويت رئيسًا لمجلس الوزراء وھي المرة الأولى في تاريخ الكويت التي يتم فيھا الفصل بين منصبي ولاية العھد ورئاسة مجلس الوزراء. ولم يقتصر نجاح سمو الأمير الراحل عند السياسة الخارجية فقط بل استمر ھذا العطاء والنجاح عند توليه قيادة دفة السياسة الداخلية للبلاد فقد حرص منذ اللحظات الأولى لتوليه منصب رئاسة الوزراء على تبني رؤية شاملة وعميقة للتنمية في الكويت تشمل مختلف قطاعات الدولة وعلى رأسھا القطاع الاقتصادي. ولتعزيز تلك الرؤية وتنفيذھا قام سموه بتشجيع القطاع الخاص وفتح فرص العمل الحر أمام الشباب الذين وضعھم سموه في مقدمة اھتماماته ورعايته من خلال دعم المشروعات الصغيرة سعيًا إلى تحقيق الھدف الأمثل الذي سعى إليه وھو تحويل البلاد إلى مركز مالي وتجاري إقليمي لتستعيد الكويت دورھا التاريخي لؤلؤة الخليج. واستمر فقيد الكويت في مسيرة العطاء رئيسًا للحكومة الكويتية حتى يناير عام 2006 عندما اجتمع مجلس الوزراء واتخذ قرارًا بالإجماع بتزكية سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أميرًا للبلاد وفقًا للمادة 3 من قانون توارث الإمارة الصادر عام 1964. وانطلاقًا من ھذا القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء ومن مبايعة أسرة آل الصباح عرض الأمر وفقًا للدستور على مجلس الأمة الذي عقد جلستين يوم الأحد 29 يناير 2006 خصصت الأولى لمبايعة أعضاء مجلس الأمة لسمو الشيخ صباح الأحمد أميرًا للبلاد في حين خصصت الجلسة الثانية لتأدية سموه القسم الدستوري أمام المجلس بحضور جميع أعضاء مجلس الوزراء. ومنذ ذلك اليوم التاريخي بدأت أسطر جديدة تكتب في تاريخ الكويت وفي مسيرة سمو الأمير الراحل في قيادة الكويت إذ استمر في تكريس رؤيته الثاقبة.

مصدر الخبر : شبكة الدستور البرلمانية